الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
.مسألة وصف الرجل نفسه بما هو عليه: قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه الحكاية عنه في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم عن مالك عنه، وزاد فيها قال مالك: ما يعجبني أحد يقول مثل هذا. ومضى الكلام على ذلك هنالك فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق. .مسألة أداء الأمانة: قال محمد بن رشد: قد اختلف في الذي يستودع الرجل الوديعة فيجحده فيها، ثم يستودعه وديعة أو يأتمنه على شيء هل يحل له أن يجحده فيها ويقتطعها لنفسه فيما جحده من وديعته على أربعة أقوال في المذهب؛ أحدها المنع من الأخذ، وهو قول مالك في المدونة اتباعا لظاهر الحديث؟ والثاني الكراهة لذلك، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه، والثالث الإباحة، وهو قول ابن عبد الحكم، ومذهب الشافعي؛ والرابع استحباب الأخذ، وهو مذهب ابن الماجشون، كان عليه دين أو لم يكن، وقيل إنما هذا إذا لم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين لم يكن له أن يأخذ إلا قدر ما يجب له في المحاصة، وهو قول خامس في المسألة. وأظهر الأقوال إباحة الأخذ، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أباح ذلك لهند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس لما شكت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن زوجها أبا سفيان بن حرب لا يعطيها من الطعام ما يكفيها وولدها، فقال لها: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» لأن معنى قوله بالمعروف أن تأخذ مقدار ما يجب لها ولا تتعدى فتأخذ أكثر مما يجب لها. وكذلك تناول قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تخن من خانك» أي لا تتعد! فتأخذ أكثر من الواجب لك فتكون قد خنته أخرى كما خانك هو أولا، لأن من أخذ حقه الواجب له فليس بخائن، بل فعل المعروف الذي أباحه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهند، فعلى هذا يخرج الحديثان جميعا ولا يحملان على التعارض، وبالله التوفيق. .مسألة ما يروى من الكرامات: قال محمد بن رشد: هذا من الكرامات الجليلة، وكرامات الأولياء يصدق بها أهل السنة لجوازها في العقل، والعلم بوجودها في الجملة من جهة النقل المتواتر وإن لم يثبت منه شيء بعينه بنقل التواتر في جهة ولي من الأولياء في غير زمن النبوة وقد ذكرنا هذا في الرسم الأول من سماع أشهب، وبالله التوفيق. .مسألة ما يزع الله بالإمام: قال محمد بن رشد: تفسير مالك لقول عثمان صحيح، والمعنى فيه أن الذين ينتهون من الناس عن محارم الله مخافة السلطان أكثر من الذين ينتهون عنها انتهاء لأمر الله عز وجل، ففي الإمام صلاح الدين والدنيا. ولا اختلاف بين أحد من العلماء في وجوب الإمامة ولزوم طاعة الإمام. وقد مضى هذا في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق. .مسألة حكاية عن سليمان بن داود عليهما السلام: قال ووجد عليه نسرا واقفا فدعاه فقال: من بنى هذا القصر؟ فقال: لا أدري، قال: فكم لك قد وقفت عليه؟ قال لي تسعمائة سنة وخمسون سنة. قال محمد بن رشد: في هذه الحكاية عبرة لمن اعتبر، وعظة وتذكرة لمن تذكر وازدجر، وبالله التوفيق. .مسألة حكاية عن عمر بن عبد العزيز: قال ابن القاسم: وحدثنا غير واحد أنه كان زياد عبدا فطلبه عمر ليشتريه، فأبى سيده وقال: ما أمسكته إلا لدين علي. قال: فقال له ناس: فإن أدينا دينك أتعتقه؟ قال نعم. وكان دينه سبعمائة أو ثمانمائة، فجمع له ألف وخمسمائة، فقضي عن سيده دينه وعتق وهو لا يعلم، فأتي بفضله ذلك المال فقيل له خذ هذا ما فضل، فقال: ما كنت في لآخذ منه شيئا، وما سألتكم من هذا شيئا. قال فأبى أن يأخذها، فردت على الناس على قدر أداء كل إنسان. قال فزعم لي مالك أن زيادا كتب أسماءهم، فكان يدعو لهم بعد ذلك. وهذا كله قول مالك إلا ما ذكرت أن عمر أراد أن يشتريه. قال محمد بن رشد: في هذا ما هو معروف من فضل عمر بن عبد العزيز وتواضعه وإكرامه لأهل الفضل، ولا يعرف حق ذي الفضل لأهل الفضل إلا أولو الفضل. وما فعل زياد من ترك قبول فضل ما بقي مما جمع له في دين سيده ليعتقه صواب، لأن كل من أعطى شيئا منه إنما قصد العون في عتقه، لا الصدقة عليه. وهذا هو مذهب مالك وقوله في المدونة في المكاتب يعان في كتابته فيفضل له من ذلك فضله، وبالله التوفيق. .مسألة كراهة القضاء وولاية بيت المال: قال محمد بن رشد: إنما اختار القضاء على بيت المال وإن كان ضرب عنقه أخف عليه من القضاء من أجل أن التخلص من القضاء عسير، لأن التخلص من بيت المال وإن كان أيسر من التخلص من القضاء ففي ولاية بيت المال تعريض بنفسه لسوء الظن، لأنه إذا- ولي على بيت المال لم يأمن أن يتهم فيه. ومن الحظ للرجل أن لا يعرض نفسه لسوء الظن، وأن يتوقى من ذلك جهده. وقد رأى رجل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع صفية فقال: هذه صفية. وقد مضى هذا المعنى في رسم التسليف في الحيوان المضمون من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق. .مسألة العبادة قد يمنعها الرجل فيكون ذلك خيرا له: قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، يشهد بصحته قول الله عز وجل: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. وهذا مثل أن يوفق الله الرجل لعمل شيء من الخير فيعرف به فيولى القضاء من أجل ذلك فلا يتخلص فيه ويكون في ذلك هلاكه، وبالله التوفيق. .مسألة من لا غيبة فيه: قال محمد بن رشد: معناه لا غيبة مباحة إلا في هؤلاء الثلاثة، فهؤلاء الثلاثة لا غيبة فيهم. وقد مضى هذا من قول عيسى بن دينار في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم والكلام فيه فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق. .مسألة ما جاء في أنه لا وضوء لمن لم يسم الله: قال محمد بن رشد: قوله إن معناه أن يتوضأ ولا يذكر به صلاة، يريد أو ما كان في معنى الصلاة مما لا يصح فعله إلا بطهارة، كالطواف بالبيت ومس المصحف وشبه ذلك، لأن من توضأ لما لا يصح فعله إلا بطهارة فقد نوى الطهارة، فيكون معنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه لا وضوء إلا بنية، لأن النية هي إخلاص العبادة لله عز وجل، ومن شرطها ذكر الله، لأن من المستحيل أن يخلص أحد العبادة لله وهو لا يذكره في نفسه، كما أن معنى قول الله عز وجل: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118]. فكلوا ما قصد إلى ذكاته بالنية، فكما تؤكل الذبيحة وإن لم يسم الله على ذبحها إذا نوى تذكيتها، فكذلك يصلى بالوضوء وإن لم يسم الله عليه إذا نوى به الصلاة أو ما لا يصلح فعله إلا بطهارة، فهو بين من التأويل. وقد يحتمل أن يكون معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا وضوء لمن لم يسم الله»: لا وضوء متكامل الأجر لمن لم يسم الله، مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» «ولا إيمان لمن لا أمانة له» وما أشبه ذلك، وبالله التوفيق لا شريك له. .مسألة قول الحسن ليس العجب ممن عطب كيف عطب: قال: وقال الحسن: ليس العجب ممن عطب كيف عطب، ولكن العجب ممن نجا كيف نجا من شياطين حرست منهم السماوات. وقال سفيان بن عيينة: كان رجل سائرا إلى بيت المقدس، فناداه مناد يسمع صوته ولا يراه، فناداه يا فلان أو يا ابن فلان، ألا ترى إلى هذا اللعين أخرج أبوينا من الجنة، ثم ها هو ذا يزهدنا فيما في الدنيا من نعم ربنا ليقل في ذلك شكر ربنا، ويرغبنا فيما في أيدي غيرنا لتطول فيه حسرتنا. قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، قال الله عز وجل: حاكيا عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83]، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» يريد فيما أقدره الله عليه من الوسوسة التي قد أمرنا بالاستعاذة منها بقوله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: 2] {إِلَهِ النَّاسِ} [الناس: 3] {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 4] {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6] فالوسواس الخناس هو إبليس- لعنه الله-، والناس في قوله من الجنة والناس معطوف على الوسواس الخناس، فأمر عز وجل بالاستعاذة من شر الناس ومن شر الوسواس الخناس، والكلام فيه تقديم وتأخير تقديره: قل أعوذ برب الناس من شر الوسواس الخناس من الجنة الذي يوسوس في صدور الناس، فالناس معطوف، على الوسواس الخناس كما ذكرناه، أمر عز وجل بالاستعاذة من شرهما جميعا. ومناداة الرجل السائر إلى بيت المقدس بما نودي به وهو يسمع الصوت ولا يرى المنادي مما هو معدود في كرامات الصالحين، لأن في ذلك له تنبيها من الله عز وجل بما أسمعه على التوقي من إبليس والتحفظ من وسوسته، وبالله التوفيق لا شريك له. .مسألة مما روي عن سعيد بن المسيب: قال ابن القاسم سمعت عن سعيد بن المسيب أنه كانت له ذهب يتجر فيها، فلما حضرته الوفاة قال: يا بني، هذه نفقتي التي كنت أكف بها وجهي وأتقوى بها على عبادة ربي. قال محمد بن رشد: في هذا دليل على أن المال عون على العبادة، وإذا كان كذلك فهو خير من الفقر. وقد مضى التكلم على الأفضل من الفقر والغنى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق. .مسألة الحض على الرفق في العبادة: قال محمد بن رشد: الحديث المروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أبقى ظهرا ولا قطع بعدا» أو كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأدخل عمرو بن العاص في خطبته في أثناء الحديث ما أدخل فيه من قوله: خافوا الله خوف من يظن أنه يموت غدا واعملوا عمل من يظن أنه لا يموت إلا هرما، يحضهم بذلك على القليل الدائم، وينهاهم عن الكثير الذي يخشى انقطاعه على ما دل عليه الحديث. فقد كان أحب العمل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يدوم عليه صاحبه. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله لا يمل حتى تملوا أكلفوا من العمل ما لكم به طاقة». والآثار في هذا المعنى كثيرة، وبالله التوفيق. .مسألة الفتوى ورواية الأحاديث قلما يجتمعان: قال محمد بن رشد: يريد أن الاشتغال برواية الأحاديث والإكثار منها وبحفظها يشغل عن التفقه فيما يحتاج إلى التفقه فيه منها، وهو ما تقتضيه الأحكام والحلال والحرام، فقلما يوجد من يتحقق بالقيام على الوجهين. وقد قال بعض العلماء: ما نظرت قط ذا علم إلا غلبني، ولا ناظرت ذا علمين إلا غلبته. فالتقلل من الروايات مع التفقه فيها أولى من الإكثار منها مع قلة التفقه فيها، فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين». والذي يروى الأحاديث ولا يتفقه فيها كالحمار يحمل أسفارا وبئس مثل السوء، وبالله التوفيق. .مسألة لا نقصية على من كان ابن أم ولد: قال محمد بن رشد: إنما ذكر ابن القاسم هذا ليبين أن هذا مما ليس يعاب به أحد، وهو بين. قال الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقال عمر بن الخطاب: كرم المؤمن تقواه، ودينه حسبه، ومروءته خلقه الحديث. وروي «أن أبا الدرداء توفي أخ لأبيه وترك أخا لأمه، فنكح امرأته، فغضب أبو الدرداء حين سمع ذلك، فأقبل إليها فوقف عليها فقال: أنكحت ابن الأمة؟ يردد ذلك عليها، فقالت: أصلحك الله، إنه كان أخا زوجي وكان أحق بي فضمني وولده، فسمع بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقبل إليه حتى وقف ثم ضرب على منكبه فقال يا أبا الدرداء يا ابن ماء السماء، طف الصاع، طف الصاع، طف الصاع». وتطفيف الصاع هو تقصيره على الامتلاء. ومنه قول الله عز وجل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] وقال أبو عبيد: هو أن يقرب من الامتلاء ولما يمتلئ. فمعنى الحديث أن أبا الدرداء لما انتقص أخا أخيه لأبيه بأنه ابن أمة، كان في ذلك وصفه لنفسه بالكمال من جهة النسب، فرد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله بأن أعلم بتساويه معه ومع الناس جميعا في النقصان بقوله: طف الصاع طف الصاع طف الصاع، وإن تباينوا في النقصان بقدر أعمالهم المحمودة، إذ لا يدرك أحد بنسبه درجة الكمال. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» ففي هذا دليل أنهم إذا لم يفقهوا كان من فقه ممن دونهم أرفع منهم، وفي هذا علو مرتبة أهل الفقه على من سواهم. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما روي عنه: «ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين أو عمل صالح» الحديث، وبالله التوفيق لا شريك له. .مسألة الحديث في أخبار سعد بن معاذ في العرش: قال وسألت مالكا عن الحديث في أخبار سعد بن معاذ في العرش، فقال لا تتحدث به، وما يدعو الإنسان أن يتحدث به وهو يرى ما فيه من التعزيز. وعن الحديث إن الله خلق آدم على صورته، وعن الحديث في الساق، وذلك كله قال ابن القاسم: لا ينبغي لمن يتقي الله ويخافه أن يحدث بمثل هذا، فقلت له: إن الله تبارك وتعالى يضحك، فلم يره من هذا وأجازه وقال: قد جاء فيه حديثان وحديث ينزل مثل ذلك، وقال هو على شيء، وهو في كل مكان، وهو ملء كل شيء {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 84]. قال محمد بن رشد: حديث سعد بن معاذ في العرش الذي أشار إليه هو ما يروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أنه قال: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ،» وأنه قال: «اهتز له عرش الرحمن». وما يروى من أن أمه بكت وصاحت لما أخرجت جنازته، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا يرقأ دمعك ويذهب حزنك فإن ولدك أول من ضحك الله له واهتز له العرش» وما يروى من «أن جبريل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات وفتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش، قال فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا سعد بن معاذ قد مات». والحديث في الساق الذي أشار إليه هو ما روي أنه «يتجلى للخلق فيلقاهم فيقول من تعبدون فيقولون ربنا فيقول هل تعرفون ربكم فيقولون سبحانه إذا اعترف لنا عرفناه» وفي بعض الآثار: «إذا عرفنا بنفسه عرفناه. قال فعند ذلك يكشف عن ساق فلا يبقى مؤمن إلا خر لله جل ذكره ساجدا». وإنما نهى مالك أن يتحدث بهذين الحديثين وبالحديث الذي جاء بأن الله خلق آدم على صورته، ونحو ذلك من الأحاديث التي يقتضي ظاهرها التشبيه مخافة أن يتحدث بها فيكثر التحدث بها وتشيع في الناس فيسمعها الجهال الذين لا يعرفون تأويلها فيسبق إلى ظنونهم التشبيه بها. وسبيلها- إذا صحت الروايات بها- أن تتأول على ما يصح مما ينتفي به التشبيه عن الله عز وجل بشيء من خلقه، كما يصنع بما جاء في القرآن مما يقتضي ظاهره التشبيه، وهو كثير، كالإتيان في قوله عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة: 210]، والمجيء في قوله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] والاستواء في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]. وكما يفعل أيضا بما جاء من ذلك في السنن المتواترة، كالضحك، والتنزيل، وشبه ذلك مما لم يكره روايتها لتواتر الآثار بها، لأن سبيلها كلها في اقتضاء ظاهرها التشبيه وإمكان تأويلها على ما ينتفي به تشبيه الله عز وجل بشيء من خلقه سواء. وأبعدها كلها من التشبيه ما جاء من أن عرش الرحمن اهتز لموت سعد بن معاذ، لأن العرش مخلوق خلق من خلق الله عز وجل، فلا يستحيل عليه الحركة والاهتزاز، وإضافته إلى الله تعالى إنما هي بمعنى التشريف له، كما يقال: بيت الله وحرمه، لا بمعنى أنه يحل فيه وموضع لاستقراره، إذ ليس في مكان ولا مستقرا بمكان، فقد كان قبل أن يخلق المكان، فلا يلحقه عز وجل باهتزاز عرشه ما يلحق من اهتز عرشه من المخلوقين وهو جالس عليه من تحركه بحركته، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ويحتمل أن يكون الكلام مجازا فيكون المراد بتحرك العرش تحرك حملته استبشارا وفرحا بقدوم روحه، وهذا جائز في كلام العرب أن يقال: اهتز المجلس لقدوم فلان عليه، أي اهتز أهله لقدومه، كقوله عز وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] يريد أهلها، ومثل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هذا جبل يحبنا ونحبه» أي يحبنا أهله ونحب أهله. وقد قيل: إن المراد باهتزاز العرش سريره الذي حمل عليه؛ وهذا يرده النص الذي في بعض الآثار من إضافة العرش الذي اهتز بموته إلى الرحمن عز وجل. وأما قوله في حديث الساق: فيكشف عن ساق، فلم يضف الساق فيه إلى أحد، ومعناه عن شدة، لأن مثل هذا الكلام يستعمل في اللغة على معنى شدة الأمر كما قال الشاعر: وقال ابن عباس في قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] أي عن شدة من الأمر. وقال الحسن في قَوْله تَعَالَى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة: 29] أي التفت ساق الدنيا بساق الآخرة؛ وقال الضحاك: معناه أمر الدنيا بأمر الآخرة؛ وقال عمر بن الخطاب: أعمال الدنيا بمحاسبة الآخرة، وذلك أمر عظيم. وأما قوله: إن الله خلق آدم على صورته فإنه يروى على وجهين: أحدهما أن الله خلق آدم على صورته، الثاني أن الله خلق آدم على، صورة الرحمن. فأما الرواية: إن الله خلق آدم على صورته، فلا خلاف بين أهل النقل في صحتها لاشتهار نقلها وانتشاره من غير منكر لها ولا طاعن فيها. وأما الرواية: إن الله خلق آدم على صورة الرحمن، فمن مصحح لها ومن طاعن عليها، وأكثر أهل النقل على إنكار ذلك وعلى أنه غلط وقع من طريق التأويل لبعض النقلة، توهم أن الهاء ترجع إلى الله عز وجل فنقل الحديث على ما توهم من معناه. فأما الرواية المحفوظة وهي: إن الله خلق آدم على صورته فتحتمل وجوها من التأويل: منها أن الهاء من قوله: إن الله خلق آدم على صورته عائدة على رجل مر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه وأبوه أو مولاه يضرب وجهه لطما ويقول قبح الله وجهك، فقال: «إذا ضرب أحدكم عبده فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته». وقد روي أنه سمعه يقول: قبح الله وجهك فزجره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك بقوله ذلك وأعلمه به أنه قد سب آدم لكونه مخلوقا على صفته، ومن دونه من الأنبياء أيضا. ومنها أن الكناية في قوله على صورته ترجع إلى آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ، ولذلك ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون معنى الحديث وفائدته الإعلام بأن الله عز وجل لم يشوه خلقه حين أخرجه من الجنة بعصيانه كما فعل بالحية والطاووس اللذين أخرجهما منها معه، على ما روي من أنه سلب الحية قوائمها وجعل أكلها من التراب، وشوه خلق الطاووس؛ والثاني أن يكون معناه وفائدته إبطال قول الدهرية الذين يقولون إنه لا إنسان إلا من نطفة، ولا نطفة إلا من إنسان، ولا دجاجة إلا من بيضة، ولا بيضة إلا من دجاجة، لا إلى أول؛ والثالث أن يكون معناه وفائدته إبطال قول أهل الطبائع والمنجمين الذين يزعمون أن الأشياء بتأثير العناصر والفلك والليل والنهار، فأعلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الحديث أن الله عز وجل هو المنفرد بخلق آدم على ما كان عليه من الصورة والتركيب والهيئة لم يشاركه في شيء من ذلك فعل طبع ولا تأثير فلك، وخص آدم بالذكر تنبيها على سائر المخلوقات لأنه أشرفها. فإذا كان الله عز وجل هو المنفرد بخلقه دون مشاركة فعل طبع أو تأثير فلك، فولده ومن سواهم على حكمه كذلك. وقد قيل في ذلك وجه رابع وهو أن فائدة الحديث تكذيب القدرية فيما زعمت من أن صفات آدم منها ما خلقها الله تعالى، ومنها ما خلقها آدم لنفسه، فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتكذيبهم وأن الله خلق آدم على جميع صورته وصفاته ومعانيه وأعراضه. وهذا كما تقول: عرفني هذا الأمر على صورته إذا أردت أن تعرفه على الاستيفاء والاستقصاء دون الاستثناء. وقد قيل فيه وجه خامس وهو أن يكون معناه إشارة إلى ما يعتقده أهل السنة من أن الله عز وجل خلق السعيد سعيدا والشقي شقيا، فخلق آدم على ما علمه وأراد أن يكون عليه من أنه يعصي ثم يتوب فيتوب الله عز وجل عليه. ففي الحديث دليل على أن أحوال العبد تتغير على حسب ما يخلق عليه وييسر له من الخير والشر، وأن كل شيء بقضاء وقدر. وقد قيل إن الكناية في قوله على صورته راجعة إلى بعض المشاهدين من الناس، وأن المعنى في ذلك والفائدة فيه هو الإعلام بأن صورة آدم كانت على هذه الصورة إبطالا لقول من زعم أنها كانت مباينة لخلق الناس على الحد الزائد يخرج عن المعهود من متعارف خلق البشر، إذ لا يأتي ذلك من وجه صحيح يوثق به. وأما الرواية الثانية التي جاءت وهي: «إن الله خلق آدم على صورة الرحمن» فقد ذكرنا أن بعض أهل النقل لا يصحح الرواية بذلك، وأن الراوي لها ساق الحديث على ما ظنه من معناه. وقد قال بعض الناس إن ذلك لا يصح أيضا من طريق اللسان، لأن الاسم إذا تقدم فأعيد ذكره كني عنه بالهاء من غير أن يعاد الاسم. ألا ترى أنك تقول إذا أخبرت عن ضرب رجل لعبده: ضرب زيد غلامه ولا تقول: ضرب زيد غلام زيد، لأنك لو قلت ضرب زيد غلام زيد لفهم من قولك أنه لم يضرب غلامه وإنما ضرب غلام رجل آخر اسمه زيد؛ وليس ذلك بصحيح، لأن القرآن قد جاء بذلك، قال الله عز وجل: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85] ولم يقل: إلينا، فإنما يضعف الحديث من جهة النقل، ومع ضعفه فله وجوه كثيرة محتملة ينتفي بها التشبيه عن الله عز وجل: منها أن يكون المراد بالصورة الصفة، لأن آدم موصوف بما يوصف به الله عز وجل من أنه حي عالم قادر سميع بصير متكلم، ولا توجب مشاركته له في التسمية والوصف تشبيهه به، لأن صفة الله عز وجل قديمة غير مخلوقة، وصفات آدم مخلوقة محدثة؛ وتكون فائدة الحديث على هذا الإعلام بتشريف الله إياه بأن أبانه عن الجمادات وعن سائر الحيوانات. ومنها أن تكون إضافة الصورة إليه إضافة تشريف وتخصيص، لأن الإضافة قد تكون بمعنى التشريف والتخصيص على طريق التنويه بذكر المضاف إذا خص بالإضافة إليه، وذلك نحو قوله: {نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس: 13] فإنها إضافة تخصيص وتشريف تفيد التحذير والردع من التعرض لها. ومن ذلك قوله عز وجل: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، وقوله في المسلمين: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] إلى ما وصفهم به. وقول الناس للكعبة: بيت الله، وللمساجد بيوت الله، فشرفت صورة آدم بإضافتها إلى الله عز وجل من أجل أنه هو اخترعها وخلقها على غير مثال سبق، ثم سائر وجوه الشرف التي خص بها آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ من فضائله المعلومة المشهورة. فالتشبيه منتف عن الله عز وجل بهذا الحديث على جميع الوجوه، من إعادة الضمير في صورته إلى الله عز وجل، أو إلى آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ أو إلى من خرج عليه الحديث على ما روي من أنه خرج على سبب، أو إلى بعض المشاهدين، والحمد لله رب العالمين. وقد ذهب ابن قتيبة إلى التمسك بظاهر الحديث فقال: إن لله صورة لا كالصور، وكما أنه شيء لا كالأشياء؛ فأثبت لله تعالى صورة قديمة زعم أنها ليست كالصور، ثم قال: إن الله جل ذكره خلق آدم على تلك الصورة، فتناقض في قوله وتوغل في تشبيه الله عز وجل بخلقه، فهو خطأ من القول لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه. وأما قول ابن القاسم في هذه الرواية: وهو كل شيء وهو في كل مكان- وهو ملء كل شيء، فهو كلام غير محصل لا يصح أن يحمل على ظاهره، فيقال إن قوله وهو كل شيء معناه وهو خالق كل شيء، وإن قوله وهو في كل مكان معناه وهو عالم بما في كل مكان، وإن قوله وهو ملء كل شيء معناه وهو قيوم كل شيء، أي لا يستغني شيء من الأشياء في قيامه عنه، وبه التوفيق، لا شريك له.
|